تحولات النظام الاقتصادي العالمي بعد هدنة واشنطن وبكين ‹ جريدة الوطن

في بدايات القرن التاسع عشر، حذر الاقتصادي الفرنسي، فريدريك باستيا (Frédéric Bastiat)، من أنه “إذا لم تعبر البضائع الحدود، فسوف يعبرها الجنود”؛ في إشارة إلى أن غياب التجارة قد يفضي إلى نزاعات ذات عواقب وخيمة، وهو ما بدا وشيكاً قبل الإعلان عن الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين في أواخر يونيو 2025، الذي هدف إلى إيقاف السباق المحموم نحو رفع الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم. فقد سجلت تلك الحرب التجارية ذروتها عند نحو 145% رسوماً أمريكية على السلع الصينية المُصدرة إلى الولايات المُتحدة، مقابل 125% رسوماً صينية على الواردات الأمريكية.
وأبرز ما نتج عن الاتفاق أنه رسّخ واقعاً جديداً لنظام الرسوم التجارية العالمي؛ حيث اتفق الطرفان على معدلات جديدة، تفوق بكثير ما كان سائداً قبل النزاع، فسوف تنخفض الرسوم الأمريكية على الواردات الصينية إلى 30%، وتقل الرسوم الصينية على الواردات الأمريكية إلى 10%. بالإضافة إلى ذلك، فُرضت رسوم أمريكية عقابية بنسبة 20% متصلة بقضية الفنتانيل، مع الإبقاء على نسبة 25% رسوم سابقة؛ ليصل إجمالي الرسوم الأمريكية فعلياً إلى 55%؛ ومن ثم حتى بعد الصفقة؛ ستظل الحواجز الجمركية الأعلى في تاريخ العلاقات بين البلدين جزءاً من “الوضع المُعتاد الجديد”.
ويُمثل هذا الاتفاق منعطفاً حاسماً في مسار تحولات بنيوية يشهدها النظام الاقتصادي الدولي، يأتي في مقدمتها إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، وإعادة النظر في منظومة الرسوم وقواعد منظمة التجارة العالمية، والسباق الاستراتيجي بين القوى الإقليمية لملء الفراغ وترتيب الأولويات الاقتصادية؛ الأمر الذي يستدعي إلقاء نظرة على الوضع الراهن، كما يتطلب أيضاً استشراف ما يُمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلاً.
صدمة عالمية:
شهد النظام التجاري العالمي، في مطلع عام 2025، أكبر صدمة له منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث دفعت السياسة التصعيدية للرسوم الأمريكية إلى كسر أعراف ظلت راسخة لعقود؛ فقد ارتفع متوسط التعريفة الجمركية الأمريكية من 2.5% عام 2024 إلى نحو 28% في أوائل مايو 2025، وهو أعلى مستوى يُسجل منذ قرن تقريباً. وعلى الرغم من التخفيض المؤقت لبعض الزيادات إثر اتفاقيات ثنائية مع الصين وبريطانيا (التي أفضت إلى تراجع متوسط التعريفة إلى نحو 17.8%)؛ فقد اهتزت أركان النظام التجاري متعدد الأطراف بقوة؛ ما أسفر عن تداعيات جمة في مقدمتها الآتي:
1- انقلاب على التعددية التجارية: تجاهلت الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب قواعد منظمة التجارة العالمية، والتزاماتها الثنائية، فارضةً تعريفات أُحادية الجانب بشكل غير مسبوق. وقد أدى ذلك إلى زعزعة الثقة بالنظام التجاري متعدد الأطراف، وإثارة مخاوف من انهيار الدور التحكيمي للمنظمة الدولية، فيما أطلق عليه البعض “أكبر صدمة لقواعد النظام التجاري منذ نشأته”.
2- تباطؤ النمو العالمي: دفعت التوترات المؤسسات الدولية إلى خفض توقعات النمو العالمي لعام 2025 إلى أبطأ وتيرة منذ عام 2008، باستثناء فترات الركود العالمي. وقلَّص البنك الدولي تقديره لنمو الاقتصاد العالمي إلى 2.3% فقط، مع خفض التوقعات لنحو 70% من اقتصادات العالم. وحذرت منظمة التجارة العالمية من أن انقسام التجارة إلى تكتلات متنافسة قد يؤدي إلى انكماش حجم التجارة السلعية بنحو 0.2% عام 2025، مع تراجع صادرات أمريكا الشمالية بنحو 12.6%.
3- محاولات لملء الفراغ: سعت قوى أخرى لحماية النظام القائم أو بناء بديل له؛ مبدية استعدادها للمضي قُدماً في نظام تجاري قانوني من دون الولايات المتحدة إذا لزم الأمر. ومثالاً على ذلك، يملك الاتحاد الأوروبي حافزاً قوياً لتولي زمام المبادرة وقيادة جهد جماعي لإصلاح قواعد التجارة العالمية، حفاظاً على بيئة مستقرة تستند إلى قوانين واضحة لإدارة الرسوم والحواجز التجارية.
بدائل التوريد:
أجبر تصاعد الحرب التجارية الأمريكية الصينية شركات ودولاً على إعادة ترتيب مصادر التوريد، والبحث عن بدائل؛ لتجنب المخاطر. وتظهر البيانات أن الواردات الأمريكية عبر الشحن البحري من الصين انخفضت بنحو 34.5% في مايو 2025، على أساس سنوي؛ وذلك في أكبر انخفاض منذ جائحة “كورونا” عام 2020. وفي المقابل، استطاعت الصين إعادة توجيه صادراتها إلى أسواق بديلة؛ إذ حققت نمواً إجمالياً بنحو 4.8% في صادراتها في مايو الماضي، وقفزت صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي بنحو 12% على أساس سنوي. وصاحب ذلك ما يلي:
1- إعادة تشكيل خارطة التوريد: اضطرت الشركات العالمية إلى إعادة تقييم سلاسل إمدادها. فعلى سبيل المثال، أدى انقطاع الصين عن تصدير المعادن النادرة إلى التأثير في الصناعات الكبرى مثل السيارات والفضاء وأشباه الموصلات والدفاع حول العالم؛ ما دفع الكثير من المُصنعين إلى تبني سياسة “الصداقة التجارية” (Friend-Shoring)، للحماية من صدمات العرض المفاجئة؛ وذلك عبر تقليل الاعتماد على الصين وتوطيد سلاسلها لدى شركاء وحلفاء موثوقين.
2- طفرة السياسات الصناعية: حفّزت الحرب التجارية تبني الاقتصادات الكبرى سياسات صناعية حمائية وداعمة للتصنيع المحلي. ومثال على ذلك، قانون “دعم صناعة أشباه الموصلات” الأمريكي (The CHIPS Act)، والإعلان صراحةً عن أن التعريفات تهدف إلى إعادة الاستثمارات إلى الداخل ودعم الأمن القومي. كذلك قدَّم الاتحاد الأوروبي دعماً واسعاً للصناعات الاستراتيجية لتحفيز الإنتاج المحلي. وفي الصين، استمر التركيز على مبادرات مثل “صنع في الصين 2.0” (Made in China 2.0)؛ لتعزيز الاكتفاء الذاتي في التقنيات المُتقدمة.
3- مرونة آسيوية وإقليمية: استفادت اقتصادات آسيوية وأخرى نامية من إعادة هيكلة سلاسل الإمداد؛ حيث إن بلدان جنوب شرق آسيا والهند والمكسيك وغيرها جذبت بعض الاستثمارات الصناعية الباحثة عن بدائل لتفادي حرب الرسوم الجمركية. وبادرت رابطة “آسيان” إلى تكثيف التكامل الاقتصادي الإقليمي؛ حيث تبنت خطة استراتيجية خمسية جديدة (2026–2030) تصبو إلى جعل الكتلة رابع أكبر اقتصاد عالمي بحلول 2045، وتضمنت رؤيتها تعزيز سلاسل الإمداد الإقليمية وتأمين مصادر الطاقة وتحسين الربط اللوجستي؛ لتحصين اقتصاداتها ضد تقلبات النظام التجاري العالمي.
ردود الفعل:
أعاد النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وصياغة الاتفاق اللاحق؛ رسم المشهد الجيواقتصادي على امتداد العالم، دافعاً مختلف الأطراف إلى إعادة التموضع الاستراتيجي؛ فقد رأت قوى أخرى فرصاً ومخاطر تستدعي التحرك، وتباينت ردود الفعل بين آسيا وأوروبا والاقتصادات النامية في التكيّف مع الواقع الاقتصادي الجديد، وهو ما يتضح في الآتي:
1- آسيا.. تعزيز التكتل الإقليمي وتوازن جديد للقوى: دفعت الحرب التجارية دول شرق وجنوب شرق آسيا إلى تعزيز التعاون الإقليمي، وتخفيف الاعتماد على الأسواق الغربية. فإلى جانب جهود الصين لدعم صناعاتها الوطنية، أبدت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية موقفاً تفاوضياً أكثر صلابة مع الولايات المتحدة الأمريكية في القضايا التجارية. وفي الوقت نفسه، استفادت الهند وفيتنام وبلدان آسيوية أخرى من تحوّل بعض الاستثمارات الصناعية إليها كبديل عن الصين، أو كأجزاء في سلاسل إمداد جديدة آخذة في التشكُّل. وبالتأكيد ستعيد الدول الآسيوية حساباتها، خاصةً بعد بدء ترامب في 7 يوليو الجاري إبلاغ حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى من بينها ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش، بأن الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة عليها ستبدأ في أول أغسطس المقبل، إيذاناً بمرحلة جديدة في الحرب التجارية.
2- أوروبا.. بين الفرصة والحرج: وجدت أوروبا نفسها في موقف حرج بين عملاقين اقتصاديين يتنازعان؛ فمن جهة، رحبت العواصم الأوروبية بانفراج التجارة بين واشنطن وبكين لتخفيف آثار التباطؤ العالمي، ومن جهة أخرى، أدركت أن الاعتماد التام على الولايات المُتحدة في قيادة النظام الاقتصادي لم يعد مُسلماً به؛ لذا بدأ التوجه الأوروبي نحو بناء تحالفات تجارية مع دول آسيا وإفريقيا، وتعزيز منظمة التجارة بإصلاحات جوهرية، وربما أيضاً الانفتاح على الصين بشروط لضمان عدم انقسام العالم إلى كتلتين. ورداً على إعلان ترامب، يوم 12 يوليو الجاري، فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على الواردات من الاتحاد الأوروبي بدءاً من أول أغسطس المقبل، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إن هذه الرسوم ستُحدث اضطرابات في سلاسل التوريد الأساسية عبر الأطلسي؛ مؤكدة أن أعضاء الاتحاد الأوروبي سيتخذون جميع الخطوات اللازمة لحماية مصالحهم، بما في ذلك اعتماد تدابير مضادة متناسبة إذا لزم الأمر.
3- الجنوب العالمي.. ضرورات الموازنة وتجنب الاصطفاف: بالنسبة لكثير من الاقتصادات النامية والصاعدة، حملت الحرب التجارية تهديدات بقدر ما حملت فرصاً؛ لذلك انتهجت معظم دول الجنوب العالمي سياسة حذرة لتجنب الانحياز الكامل لأي طرف. ورأت قوى ناشئة مثل الصين وروسيا فرصة في سد الفراغ الذي يخلّفه تراجع الدور الأمريكي في الحوكمة العالمية؛ حيث تعمل مجموعة “بريكس” على مشروعات موازية كمصرف التنمية، وصياغة أطر تعاون تجاري ومالي مستقلة عن الغرب؛ مما يزيد من تفكك النظام العالمي.
سيناريوهات مستقبلية:
على الرغم من التوصل إلى هدنة تجارية بين الولايات المتحدة والصين، تبقى التساؤلات حول مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، فما زال الاتفاق الأمريكي الصيني مجرد إطار مبدئي غير ملزم قانونياً، يؤمّن راحة جزئية ومؤقتة، وسوف يتوقف الأمر على كيفية تصرف الولايات المتحدة في نزاعاتها الجمركية ضمن حدود القانون والسياسة الداخلية، وعلى مدى التزام بقية الدول بالنهج التعددي في إدارة التجارة العالمية. ويبدو أنه من الصعوبة عودة سلاسل التوريد والنظام الجيواقتصادي العالمي إلى ما كان عليه قبل تصاعد الحرب التجارية، خاصةً مع استمرار التعريفات الجمركية بين واشنطن وبكين عند مستويات أعلى كثيراً من السابق، واستمرار حالة عدم اليقين كسمة مميزة للفترة الراهنة، فضلاً عن إعلان ترامب في شهر يوليو الجاري توسيع نطاق حربه التجارية وفرضه رسوماً جمركية جديدة على عدد من الدول، بما في ذلك كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وسريلانكا والعراق والجزائر ومولدوفا والفلبين وليبيا وماليزيا وكازاخستان وجنوب إفريقيا وميانمار ولاوس وبنغلاديش وإندونيسيا وكمبوديا، بدايةً من شهر أغسطس المقبل.
وبالتالي، من المُرجح أن تستمر التغيرات الهيكلية على مستوى سلاسل التوريد، والتحولات الاستراتيجية عبر آسيا وأوروبا والجنوب العالمي، التي سبقت الإشارة إليها، لكن هل سيؤدي الاتفاق الأمريكي الصيني إلى فترة استراحة يلتقط فيها النظام أنفاسه قبل جولة جديدة من الاضطراب، أم سيُمثل نقطة انطلاق لإعادة تشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد بقيادة تحالفات مختلفة؟ ويمكن في هذا الصدد تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية على الأقل:
– السيناريو الأول (تثبيت الهدنة ونظام تعايش تجاري جديد): وفق هذا السيناريو، تلتزم واشنطن وبكين بالإطار المُتفق عليه وتحوله إلى اتفاق تفصيلي مستدام. وتبقى الرسوم مرتفعة لكن مستقرة لفترة ممتدة؛ ما يسمح باستئناف تدفق السلع ولو بتكلفة أعلى، وتنشط قنوات الحوار الثنائي لضمان تنفيذ الصين وعودها بشأن صادرات المعادن النادرة وبعض الإصلاحات، فيما قد تُخفف الولايات المتحدة بعض قيود التصدير التكنولوجي تحت ضغط شركاتها. ويدعم ذلك الأسواق ويخفف حالة عدم اليقين، وربما يُشجع على نمو الاستثمارات مجدداً وإن كان بشكل انتقائي. وقد نشهد جهوداً لإطلاق جولة مفاوضات تجارية دولية جديدة تُعيد صياغة قواعد الدعم الحكومي والتكنولوجيا لتجنب نزاعات مستقبلية.
– السيناريو الثاني (انتكاس وتصاعد المنافسة الصفرية): وفق هذا التصور المتشائم، قد يتنصّل أحد الطرفين (أو كلاهما) من الاتفاق، فتعود دوامة التصعيد سريعاً وربما بشكل أشد من السابق. وعندئذ تستعر الحرب التجارية مجدداً، ويصاحبها اضطراب حاد في الأسواق وتآكل للثقة. وسيكون كلا الطرفين، واشنطن وبكين، خاسراً، وستجد الدول الأخرى نفسها أمام ضغوط متجددة للاختيار بين السوقين الأمريكية والصينية. وستواجه الحكومات تحديات هائلة في تأمين احتياجاتها، من الغذاء والطاقة إلى المدخلات الصناعية، وربما تضطر إلى فرض قيود تصدير واستيراد غير مسبوقة لضمان الاستقرار الداخلي. كما سيتكبد قطاع الأعمال العالمي خسائر ضخمة جراء اضطراب سلاسل التوريد وتقلب الأسعار، وربما نشهد موجة إفلاس لشركات عجزت عن التحوّط لهذا السيناريو.
– السيناريو الثالث (ولادة أُطر تجارية جديدة وتحديث الحوكمة العالمية): هناك فرضية أكثر تفاؤلاً تقوم على استغلال دروس الأزمة لإعادة بناء نظام تجارة دولي أكثر متانة. وتُدرك واشنطن وبكين وغيرهما أنه لا مفر من التعاون لضمان الازدهار والاستقرار المشترك. وقد يتحول الاتفاق الثنائي إلى مبادرة أوسع نطاقاً ليصبح بمثابة “ميثاق تجاري عالمي جديد”، يراعي الاعتبارات الأمنية والمنافسة العادلة، بما يضمن وضع حدود قصوى متفق عليها للتعريفات (مثلاً ألا تتجاوز 15% إلا في حالات الطوارئ). وفي ظل ذلك، قد يشهد العالم تحسناً كبيراً في مناخ الأعمال بوجود قواعد أوضح وضمانات أقوى، وستستعيد التجارة العالمية جاذبيتها. بالطبع، يبقى هذا السيناريو طموحاً، وربما يتطلب تغيّراً في الفكر الجيواقتصادي لدى دول رئيسية؛ لكنه ليس مستحيلاً إذا أثبت الواقع خطورة استمرار النهج الحالي على مصالح الجميع.
دروس استراتيجية:
سيظل التساؤل مطروحاً: هل نحن أمام اتفاق هش أم نظام جديد؟ ما زالت العلاقة التجارية الأمريكية الصينية هشة، ولا يُتوقع عودة الأمور إلى سابق عهدها سريعاً. فعلى سبيل المثال، وافقت بكين على استئناف تصدير المعادن الأرضية النادرة الحيوية إلى الولايات المتحدة ولكن ضمن شروط ولمدة ستة أشهر فقط. كذلك فإن الولايات المتحدة لن تزيل تماماً قيودها على تصدير الرقائق الإلكترونية إلى الصين، بل ربما تخففها جزئياً تحت الضغط المشترك من بكين ومن صناعات التقنية الأمريكية المحلية. وهذا يعني أن الانفصام الجزئي في مجالي التقنية وسلاسل التوريد، سيستمر حتى في ظل الهدنة التجارية، فلا يزال كل طرف حذراً من الاعتماد المفرط على الآخر في التقنيات الحساسة والموارد الحرجة.
لقد دخل النظام الاقتصادي العالمي حقبة إعادة تشكيل مضطربة، مع الكثير من عوامل عدم اليقين، ولكن أيضاً مع فرص لمراجعة وإصلاح ما تصدّع. وسيكون على الحكومات إعادة التفكير في استراتيجياتها التنموية والتجارية في عالم لم يعد فيه الانفتاح المطلق مسلّماً به، ولا المواجهة الحمائية حلاً مستداماً. وعلى قطاع الأعمال تبنّي مرونة استباقية لإدارة المخاطر في سلاسل الإمداد والتكيف مع قواعد لعبة جديدة قيد التشكل. أما المؤسسات الدولية، فيقع على عاتقها دور محوري في رأب الصدع وإعادة إرساء حوكمة اقتصادية عالمية عادلة ومتوازنة.
وبغض النظر عن أي السيناريوهات سيتحقق جزئياً أو كلياً، هناك بعض الدروس الاستراتيجية الواضحة التي أفرزها الواقع الراهن، وهي:
1- الترابط الاقتصادي سلاح ذو حدين: على الرغم من أنها كانت حصناً للسلام لعقود؛ فإن الاعتمادية المفرطة على طرف واحد دون ضمانات جعلت منها نقطة ضعف. وعليه، ينبغي تنويع الشراكات الاقتصادية لتجنب الارتهان لمصدر وحيد، مع بناء مخزونات استراتيجية من السلع الحيوية تحسُّباً للأزمات.
2- التنافس الجيواقتصادي ذو وتيرة متسارعة: تتنامى مكانة قضايا الأمن القومي والتكنولوجيا التي أصبحت تحتل جوهر سياسات التجارة الحديثة؛ لذا يجب تطوير أُطر دولية جديدة تدمج بين الاعتبارات الأمنية والاقتصادية لمنع الانزلاق إلى صراع صفري ومدمر للمصالح المشتركة.
3- لا توجد دولة بمفردها تستطيع إدارة فوضى الاقتصاد العالمي: ستظل الحاجة ماسة لترسيخ نظام عالمي قائم على قواعد مشتركة بدلاً من السعي لأفضلية أُحادية، فلا بديل عن التعاون متعدد الأطراف لإعادة بناء مؤسسات الحوكمة الاقتصادية العالمية، وإلا فإن البديل هو الدخول في عداء اقتصادي مفتوح لن يستفيد منه أحد.
وأخيراً، تُثبت الأحداث جوهر مقولة باستيا، فالتجارة ليست مجرد تبادل سلع، بل هي صمام أمان للسلم والاستقرار. ولعل إدراك هذه الحقيقة والعمل بمقتضاها، يُمثل التحدي الأكبر أمام صناع السياسات في المرحلة المقبلة، فالقرارات التي يتخذها القادة الآن سوف تحدد ما إذا كنا ماضين نحو عالم مجزأ وضعيف، أم نحو عولمة متجددة أكثر حكمةً وصلابة.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”