حركة الشباب ومخاطر إعادة تشكيل خريطة الإرهاب الدولي ‹ جريدة الوطن

يبدو الأمر وكأنه حلم مزعج يصعب تصديقه. فبينما تتوجه الأنظار تلقاء أوكرانيا وغزة وطهران، تبدو مناطق أخرى ملتهبة وكأنها هوت من ذاكرة الأمم والشعوب صوب مياه المحيط العميقة. فثمة ملامح فوضى قادمة في منطقة القرن الإفريقي تذكرنا بإرث حركة طالبان وسقوط كابول في أفغانستان. وعلى الرغم من التجاهل أو عدم الاهتمام الإعلامي، لا يزال الهجوم الذي شنته حركة الشباب الإرهابية في أواخر فبراير 2025، والذي أُطلق عليه اسم “عملية رمضان”، يُمثل أكبر حملة إقليمية طموحة لهذه الحركة الإرهابية بالغة الخطورة منذ سنوات خلت؛ حيث استعادت المزيد من الأراضي الصومالية في مناطق شبيلي الوسطى والسفلى، وهيران، وبنادر، واقتربت أكثر فأكثر من العاصمة مقديشو. ولعل ما يدعو إلى النظر والتدبر هو أنه على الرغم من الغارات الجوية التي نفذتها القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، خلال الفترة من 15 مارس وحتى 30 يونيو 2025، وكذلك الدعم من تركيا؛ فقد عجزت الحكومة الصومالية عن شن هجوم مضاد مستدام؛ مما ترك حركة الشباب في وضع أفضل.
إن عودة الروح إلى حركة الشباب تسلط الضوء على عدة قضايا جوهرية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، ومن ذلك حالة الجمود السياسي بسبب تأجيل الانتخابات في الصومال مراراً وتكراراً، وإرهاق المانحين، وتزايد التوترات العشائرية؛ مما أضعف قدرة الدولة الفدرالية. أضف إلى ذلك، تواجه قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي (أوصوم) نقصاً في التمويل، وتعاني المليشيات العشائرية المتحالفة مع الحكومة الفدرالية من ضغوط هائلة، كما تتعرض قوات “داناب”، التي دربتها ودعمتها الولايات المتحدة، لضغوط جراء تخفيضات الميزانية. ولعل تلك الأزمة المتفاقمة في منطقة جيوستراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لأمن الملاحة العالمية والاستقرار الإقليمي، تطرح السؤال العصي وهو هل يمكن أن تتفوق حركة الشباب على إرث الإرهاب الذي خلفته تنظيمات أخرى؟ وذلك هو محور النقاش في هذا التحليل الذي يحاول استشراف التداعيات الاستراتيجية لعودة صعود الشباب في الصومال.
سياق مقارن:
قد يتساءل المرء عن المقومات الخاصة بحركة الشباب المجاهدين في سياق غيرها من التنظيمات الإرهابية المعولمة العابرة للحدود أو محلية الطابع. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن حركة الشباب المجاهدين بالرغم من وحدة المعتقد والغاية بتحقيق “دولة الخلافة” المزعومة؛ فإنها ليست كغيرها من الحركات الجهادية العنيفة. ووفقاً لتقارير دولية حديثة، فقد تمكنت حركة الشباب من السيطرة على عدة مدن استراتيجية قريبة من مقديشو، بما في ذلك بلعد (على بُعد 30 كيلومتراً شمال العاصمة) وآدان يابال في شبيلي الوسطى (245 كيلومتراً شمال مقديشو). وقد دفعت هذه التطورات العديد من الخبراء والباحثين إلى المقارنة بين الوضع الحالي في الصومال وسقوط كابول في أيدي طالبان عام 2021، ومن جهة أخرى السؤال عن موقع الشباب في سياق الحركات العنيفة الأخرى مثل داعش أو التنظيم العالمي للقاعدة؟ وهنا يمكن الإشارة إلى المتغيرات التالية:
1- حركة الشباب قوة مالية واستراتيجية: تتميز حركة الشباب عن نظيراتها من الجماعات الإرهابية بقدرتها المالية الاستثنائية؛ حيث تحقق إيرادات سنوية تُقدر بنحو 100 إلى 200 مليون دولار، وهذا المبلغ الضخم يضعها في موقع فريد بين التنظيمات الإرهابية العالمية. وتأتي هذه القدرة المالية الهائلة من مصادر متنوعة ومعقدة، تعكس تطور حركة الشباب من مجموعة مسلحة بسيطة إلى مؤسسة مالية متطورة قادرة على منافسة الدولة الرسمية في جمع الإيرادات.
وتُعد تجارة الفحم غير المشروعة عصب الاقتصاد السري للحركة؛ حيث تُدر أرباحاً تُقدر بنحو 7.5 إلى 10 ملايين دولار سنوياً على الأقل. وتعمل هذه التجارة من خلال شبكة معقدة؛ حيث يتم قطع أشجار الأكاسيا الأصلية وتحويلها إلى فحم يُصدر بشكل رئيسي عبر موانئ كيسمايو وبراوة. وبالرغم من الحظر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على تصدير الفحم الصومالي عام 2012؛ فإن التجارة استمرت بطرق ملتوية؛ حيث يتم تهريب الفحم ووضع ملصقات تشير إلى أنه من دول أخرى. ومن جهة أخرى، يُعد النظام الضريبي الذي تفرضه حركة الشباب على تجارة الفحم معقداً ومتعدد المستويات؛ إذ تفرض ضريبة 2.5% على الإنتاج وتمنح شهادات إنتاج، كما تفرض ضريبة مماثلة على النقل، بالإضافة إلى رسوم نقاط التفتيش. وعند وصول الفحم إلى الموانئ، تجبي الحركة ضريبة 2.5% من قيمة الشحنة المقدرة للسفن الكبيرة، و0.5 دولار لكل كيس للقوارب الصغيرة. وهذا النظام المحكم جعل من المستحيل تقريباً تجنب دفع الضرائب للحركة، حتى لو تم النقل عبر طرق بديلة.
كما تفرض حركة الشباب ضرائب على الشركات والأفراد في المناطق الخاضعة لسيطرتها وحتى في المناطق الحكومية من خلال نظام ضريبي متطور يشمل أربع فئات رئيسية: العبور، والبضائع، والمنتجات الزراعية، والماشية. وهذا النظام يعمل من خلال إدارة المالية التابعة للحركة التي تدير عشرات نقاط التفتيش عبر جنوب الصومال. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الزكاة تُشكل العمود الفقري لهذا النظام؛ حيث تفرض الحركة ضريبة سنوية بنسبة 2.5% من القيمة النقدية للأعمال، وليس من الأرباح كما ينص الشرع الإسلامي. وهذا التفسير الخاص للزكاة يسمح للحركة بجمع ضرائب حتى من الأعمال التي لم تحقق أرباحاً. وتحتفظ الحركة بقوائم مفصلة لأصحاب الأعمال وتقديرات لثرواتهم، وفي نهاية العام تُستدعى الشركات لدفع الزكاة نقداً. ويمتد هذا النظام حتى إلى العاصمة مقديشو؛ حيث يُستدعى أصحاب الأعمال في سوق باكارا للسفر إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة ودفع الضرائب.
وتقوم حركة الشباب، كذلك، بجباية رسوم ضخمة من القوافل التجارية العابرة للمناطق الخاضعة لنفوذها من خلال نظام معقد من نقاط التفتيش يدر إيرادات تُقدر بعشرات الملايين سنوياً. ويُشكل تهريب السكر مصدراً مالياً خفياً مهماً؛ حيث تستفيد الحركة من الرسوم الجمركية العالية في كينيا على واردات السكر. وتشير بعض التقديرات إلى أن 150 ألف طن من السكر المهرب يدخل كينيا سنوياً عبر الصومال؛ مما يدر للحركة ما بين 400 ألف إلى 18 مليون دولار سنوياً. كما تفرض الحركة ضرائب مرهقة على الزراعة والماشية، تشمل رسوماً على الزراعة والحصاد وبيع الماشية بمعدل جمل واحد من كل 25 جملاً. وهذا النظام الشامل يمتد حتى إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحركة مباشرة من خلال شيوخ العشائر.
2- حركة الشباب مقابل طالبان وداعش والقاعدة: على الرغم من اشتراك حركة طالبان وتنظيم داعش وتنظيم القاعدة وحركة الشباب في “الإطار الجهادي”؛ فإن أنماط عملها تكشف فروقاً حاسمة؛ فطالبان كانت تنحصر أجندتها في حكم أفغانستان وتوظيف العنف لضبط محيطها الداخلي.
وعلى النقيض، بلغ تنظيم داعش ذروة توحشه خلال الفترة ما بين 2014 و2019، عندما قتل ما لا يقل عن 5 آلاف إيزيدي ضمن حملة إبادة، قبل أن تتراجع دولته المزعومة تحت ضربات التحالف الدولي. أمّا القاعدة، فتبقى شبكة لا مركزية تعتمد التحريض والعمليات ذات النطاق العابر للحدود من دون سيطرة فعلية على الأرض، مستندة إلى تحالف مرن من فروع مستقلة تديرها قيادة مرنة عبر الفضاء الرقمي.
وفي المقابل، تمزج حركة الشباب بين نموذج “دولة داعش” المزعومة، وقدرات التمويل المستدامة؛ إذ تجني كما أسلفنا أكثر من 100 مليون دولار سنوياً من الضرائب والتهريب؛ ما يسمح لها بالسيطرة الطويلة على أرياف الصومال وتهديد محيطها الإقليمي. وبهذا المعنى، تبدو الحركة أخطر على المدى البعيد؛ فهي تجمع امتداد القاعدة العالمي، ومرونة داعش المالية، مع تمكُن محلي شبيه بطالبان؛ ما يمنحها رصيداً فريداً لتوسيع نفوذها إذا لم يتم كبح جماح تمددها.
3- تحالفات إقليمية خطرة: تُشير تقارير الأمم المتحدة ومراكز الأبحاث إلى تنامي التعاون البراغماتي بين حركة الشباب وجماعة الحوثيين في اليمن؛ إذ تُزود الأخيرة الأولى بأسلحة متطورة عبر موانئ مرقة وبراوة في شبيلي السفلى، بينما يلتزم مقاتلو الشباب بتكثيف الهجمات والقرصنة البحرية لصرف انتباه الدوريات البحرية عن شحنات الحوثيين. ويشمل هذا التحالف نقل تقنيات الطائرات المُسيَّرة؛ حيث يقدم الحوثيون تدريبات على استخدام الطائرات الإيرانية الصُنع، فضلاً عن تبادل المعلومات الاستخباراتية لتنسيق عمليات ضد الشحن التجاري في خليج عدن والبحر الأحمر. كما تعهدت حركة الشباب بتكثيف القرصنة البحرية في مقابل حماية طرق الإمداد الحوثية؛ مما يعكس شراكة تقوم على المصالح المشتركة لا الأيديولوجيا.
الاستجابات الدولية:
لمواجهة هذا الخطر المحدق، شهدت الإدارة الثانية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تصعيداً ملحوظاً في العمليات الجوية الأمريكية ضد حركة الشباب في الصومال؛ حيث نفذت قوات (أفريكوم) التابعة للجيش الأمريكي 43 غارة جوية بين يناير ويونيو 2025، مقارنةً بعشر غارات فقط طوال عام 2024. وقد شملت هذه الغارات ضرب مواقع الكوادر القيادية لحركة الشباب وفروع داعش الصومال، فضلاً عن تقديم الدعم الجوي المباشر للقوات الصومالية خلال العمليات الأرضية، وتخفيف قيود الاستهداف؛ بحيث يُسمح للقادة الميدانيين بضرب الأهداف دون الحاجة إلى موافقات مسبقة من واشنطن.
وفي ظل هذه التحركات، بدأت مهمة الدعم والاستقرار التابعة للاتحاد الإفريقي في الصومال (أوصوم)، عملياتها رسمياً في يناير 2025، لتحل محل مهمة (أتميس)، بقوة مؤلفة من 11,826 فرداً عسكرياً ومدنياً من دول شرق إفريقيا ومصر؛ غير أنها تُواجه تحديات مالية ولوجستية كبيرة تفاقمت من ميراث العجز المالي الذي رافق سلفها (أتميس)، وقُدّر بنحو 100 مليون دولار بحلول نهاية 2024.
مواجهة التحديات:
يُمثل صعود نجم حركة الشباب مرة أخرى، تحديات جمة من حيث تهديد طرق التجارة البحرية؛ إذ إن الموقع الاستراتيجي للصومال على خليج عدن يجعل سقوطه في أيدي الحركة خطراً مباشراً على نحو تريليون دولار من التجارة العالمية التي تمر سنوياً عبر هذه الممرات الحيوية، فالتنسيق المُحتمل بين الحركة والحوثيين قد يُعطل هذه الطرق وكذلك تدفق البضائع والطاقة إلى الأسواق الدولية. ومن جهة ثانية، فإنه سوف يُتيح إنشاء ملاذ آمن للإرهاب الدولي في الصومال؛ حيث يمكن لحركة الشباب استغلال امتداد سواحل البلاد البالغ 3,333 كيلومتراً لإطلاق عمليات بحرية وأمنية لا تتوفر لجماعات إرهابية أخرى؛ ما يوسع نطاق تهديدها خارج الحدود البرية التقليدية. ومن جهة ثالثة، قد يفضي هذا الظهور الإرهابي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي من خلال تفاقم الأوضاع في دول الجوار، لا سيّما كينيا وإثيوبيا، اللتان تشهدان بالفعل تسللاً متزايداً لمقاتلي الشباب عبر الحدود؛ فقد أسفرت الهجمات الحدودية الأخيرة في ديسمبر 2024 عن مقتل 23 جندياً كينياً.
وأمام هذه التحديات، يمكن الحديث عن ثلاثة مسارات رئيسية تتمثل في الآتي:
1- المسار العسكري، الذي ينطوي على تكثيف الضربات الجوية والعمليات الخاصة ضد أهداف حركة الشباب وشبكات تمويلها الخارجية، لا سيّما الروابط الإيرانية الحوثية؛ وهو ما يستلزم زيادة الوجود العسكري الأمريكي والدولي في القرن الإفريقي، وتعزيز القدرات الاستخباراتية، وتطوير قدرات القوات الصومالية لضمان فعالية العمليات المشتركة.
2- المسار الدبلوماسي، الذي يركّز على تعميق التعاون الإقليمي مع إثيوبيا وكينيا وتركيا ومصر ودول الخليج العربية؛ حيث برز دور هذه القوى مؤخراً في إعادة الصياغة الجيوسياسية لمنطقة القرن الإفريقي؛ ما قد يُسهم في بناء ثقة إقليمية وتنسيق جدي لمواجهة التهديدات الأمنية.
3- مسار دعم الحكومة الصومالية، من خلال تقوية المؤسسات الرسمية ومكافحة الفساد الذي يُسهل لحركة الشباب جمع الأموال حتى في المناطق الخاضعة للحكومة، وذلك بدعم برامج الإصلاح الإداري والشفافية المالية لضمان عدم اختراق الحركة للأنظمة الرسمية واستنزاف الموارد الوطنية.
السيناريو الأسوأ:
تُظهر تجربة أفغانستان أن الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي دون بناء قدرات محلية مستدامة، يقود إلى انهيار سريع للقوات الوطنية حين يتلاشى الالتزام الأجنبي؛ فقد انهارت القوات الأفغانية في أقل من أربعة أشهر بعد إعلان الانسحاب الأمريكي في 2021، بالرغم من 20 عاماً من التدريب والتمويل البالغ 145 مليار دولار. وتُنبه تجربة “سقوط الصقر الأسود” في مقديشو عام 1993، إلى التأثير السياسي العميق لخسائر القوات الأمريكية؛ إذ أدى مقتل 18 جندياً وإصابة آخرين إلى تراجع الدعم الشعبي والانسحاب السريع؛ ما ترك فراغاً أمنياً عمّق الأزمة الصومالية. وفي ظل امتلاك حركة الشباب لإيرادات سنوية كبيرة، وقدرتها على استنزاف الجيش الصومالي عبر الضرائب والتهريب؛ يُصبح الأفق الماثل أكثر قتامة إذا فشلت مقديشو في تعزيز مؤسساتها الدفاعية والإدارية.
وإذا ما ترافق ذلك مع تراجع وجود بعثة الاتحاد الإفريقي (أوصوم) دون تسليم سلس للمسؤوليات، قد تستغل حركة الشباب الفراغ الأمني لإعادة تموضعها حول مقديشو والحصار التدريجي للمدينة، كما تنبئ تحليلات برنامج السلام والاستقرار للقرن الإفريقي بسيناريو تستعيد فيه الحركة السيطرة على بلدات رئيسية ويدعم شبكتها الإدارية والمالية في ضواحي العاصمة. وفي هذا السيناريو الأسوأ، تُحكم الحركة قبضتها على طرق التجارة البحرية بمحيط مقديشو، وتستخدم حواضنها الريفية لحشد عملياتها العسكرية والسياسية، قبل الانتقال إلى إدارة شؤون المدينة عبر “مجالس شورى” ومحاكم شرعية، مستفيدةً من انقسامات فدرالية وصراعات قبلية لتثبيت دعائم نظام “خلافة إسلامية”؛ وهو ما يُعيد حينها الصومال إلى حالة “الدولة المنقسمة”، ويُهدد بانتشار موجة جديدة من الإرهاب الإقليمي. وتلك هي مخاطر الفوضى القادمة!
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”