واشنطن تبني الجدران وبكين تسافر للمستقبل

أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلا واسعا بإطلاقه حربا تجارية شرسة مع الصين، لكن محللين يرون أن الحرب قد تنقلب ضده، نتيجة سياسات غير متماسكة وردود فعل متوقعة من الصين، حسبما جاء في بودكاست The Ezra Klein Show الذي استضاف الصحفي توماس فريدمان.
في حوار أجراه الصحفي الأمريكي إزرا كلاين ضمن برنامجه الصوتي “The Ezra Klein Show” مع الكاتب الشهير توماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز، ناقش الاثنان ملامح التوتر المتصاعد في العلاقات الأمريكية الصينية، لا سيما في ظل السياسات التجارية العدائية وتفاقم الانفصال التكنولوجي والثقافي بين القوتين.
ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن فريدمان قوله إن سياسات ترامب التجارية تفتقر إلى الاتساق والمنطق، مشيرا إلى التقلب في فرض الرسوم الجمركية ثم التراجع عنها في ذات اليوم، مما أربك الأسواق وقلص ثقة المستثمرين.
وأضاف أن “الصين بدأت بالرد عبر وقف تصدير المعادن النادرة الضرورية لصناعة التكنولوجيا المتقدمة، وهو ما قد يضعف قدرة الصناعات الأمريكية على المنافسة”.
فريدمان، الذي عاد مؤخرا من زيارة إلى الصين، يعبر عن قلقه من حالة “العمى الاستراتيجي” في واشنطن تجاه بكين. ويقول: “نحن نواجه الصين كما لو أننا ما زلنا في تسعينيات القرن الماضي، بينما تغيرت الصين كثيرا وأصبح فهمنا لها أكثر ضيقا من أي وقت مضى”.
تحول حاد في السياسات الصينية
كما انتقد فريدمان الإجماع الحزبي في واشنطن ضد الصين، وقال إن هذا التوافق يمنع النقاش العقلاني ويحول الصين إلى “عدو خارجي” دون تقييم موضوعي للحقائق.
وأشار أيضا إلى التحول الحاد في السياسات الصينية منذ تولي الرئيس شي جين بينغ السلطة عام 2013، وسعيه للسيطرة على صناعات المستقبل، مما غير جذريا في طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
وتساءل: “ماذا لو خسرنا هذه الحرب التجارية؟ وماذا لو بدا العالم أكثر ثقة في الصين من الولايات المتحدة؟” في إشارة إلى احتمال تراجع الهيمنة الأمريكية إذا استمر التصعيد دون استراتيجية واضحة.
قال فريدمان: “لقد ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء فادحة في فهم التحول العميق الذي تمر به الصين، ونحن ببساطة لا ندرك مدى التأخر الذي نواجهه”. وأضاف: “نحن خاسرون في هذا السباق، وعلينا أن نفتح أعيننا قبل فوات الأوان”.
تدهور العلاقة
يرى فريدمان أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تفجرت نتيجة ثلاثة عوامل رئيسية: أولها انعطافة الرئيس الصيني شي جين بينغ نحو حكم أكثر انغلاقا، وثانيها تراجع استفادة الشركات الأمريكية من الاستثمار في الصين بسبب متطلبات نقل التكنولوجيا، وثالثها بروز الصين كمنافس تكنولوجي مستقل بقدرات محلية متقدّمة.
ويؤكد أن هذا التحول أضعف العلاقات التجارية والتعليمية والتكنولوجية بين البلدين، ما أدى إلى تفكك أحد الأعمدة الأساسية للعلاقة، وهو مجتمع الأعمال الأمريكي الذي لطالما شكل صمام أمان سياسيا واقتصاديا في التعامل مع الصين.
الابتكار أم السرقة؟
من جهة أخرى، يقول كلاين إن هناك شعورا متزايدا في أوساط المسؤولين ورجال الأعمال الأمريكيين بأن صعود الصين كان مدفوعا بتجسس صناعي وتعليمي وحتى سياسي، وبأن كثيرا من الابتكار الصيني هو في الواقع “سرقة” للمعرفة الأمريكية، كما عبر السيناتور الجمهوري جوش هاولي بقوله: “الصين لا تبتكر، بل تسرق منا فقط”.
لكن فريدمان يرد على ذلك: “القول إن الصين لا تبتكر أصبح ببساطة غير دقيق. الشركات الأمريكية والأوروبية التي تعمل في الصين تقول الآن إنها لا تذهب هناك فقط من أجل السوق، بل للبقاء على مقربة من مراكز الابتكار الحقيقي”.
استشهد فريدمان بتجربة شخصية في زيارته الأخيرة إلى الصين: “عندما زرت الصين بعد الجائحة، اكتشفت أن شركات مثل هواوي وشاومي لم تعد تصنع هواتف فحسب، بل أصبحت تصنع سيارات كهربائية. لقد وضعوا هواتفهم الذكية على عجلات”.
وأضاف: “ركبت سيارة هواوي وهناك رأيت المستقبل: شاشة تنزل من السقف، حاسوبي المحمول يتصل بها فورا، طلبت مشاهدة حفلة لبول سايمون في حديقة هايد بارك بلندن، وظهرت خلال 30 ثانية مع صوت نقي لم أسمعه في أي سيارة من قبل”.
نموذج الصالة الرياضية
يلخص فريدمان آلية التقدم الصيني بما يسميه “نموذج الصالة الرياضية”، حيث تختار الحكومة قطاعا مثل الطاقة الشمسية، وتغرق السوق بمئات الشركات المدعومة. تتنافس هذه الشركات بقوة، وتفشل الغالبية، لكن الناجيات منها تصبح قوية للغاية، تهيمن على الأسواق العالمية بأسعار لا تضاهى وقدرات ابتكارية عالية.
وقال إن هذا النموذج تكرر في الصناعات التكنولوجية الأخرى مثل السيارات الكهربائية والروبوتات، حيث أفرزت هذه الديناميكية سلاسل توريد مترابطة وقدرة إنتاجية مذهلة تجعل الابتكار الصيني سريعا وفعالا. “إذا قال شاب صيني إنه يريد صنع قميص بزر وردي يغني النشيد الوطني معكوسا، فسيجد من يصنعه له غدا”، بحسب وصف فريدمان.
أقر كلاين بأن هذا النموذج الصيني يحتوي على كثير من الهدر والفساد، مستشهدا بمثال شركة عقارية تحولت فجأة إلى شركة سيارات كهربائية فقط للحصول على تمويل حكومي. ومع ذلك، يؤكد فريدمان أن هذا الهدر في المراحل الأولى يولد في النهاية “أبطالا وطنيين” تدعمهم الدولة وتنافس بهم العالم.
الانعزال الأمريكي
يرى فريدمان أن أحد أسوأ آثار الجائحة هو انكماش قنوات التبادل بين البلدين، حيث غادر معظم رجال الأعمال الأمريكيين الصين، وقلت زيارات الوفود الرسمية والطلابية، وعلق: “الصين وأمريكا اليوم كفيلين ينظران إلى بعضهما من خلال إبرة، بعد أن كانا ينظران عبر قشة”.
وأضاف: “الأمريكيون لم يعودوا يفهمون الصين، بينما تبني الصين بهدوء مستقبلها. هذه فجوة معرفية خطيرة”.
أبدى فريدمان قلقه من “الإجماع السياسي العدائي” المتزايد تجاه الصين في واشنطن، والذي بدأ مع ترامب واستمر مع إدارة بايدن وانتقل تلقائيا لإدارة ترامب الثانية. “أصبح من غير المقبول في العاصمة الأمريكية أن تقول أي شيء إيجابي عن الصين، وهذا يقتل النقاش العقلاني ويغذي التصعيد”، بحسب رأيه.
كما حذر من أن أمريكا باتت أسيرة رؤى قديمة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، متجاهلة واقع الصين المتغير، مما يضع سياستها في موقف دفاعي لا يتماشى مع حقائق الحاضر.
وقال فريدمان إن ما رآه في الصين لم يكن مجرد تقدم تقني، بل كان نتيجة ثلاثين عاما من التدريب المكثف، بينما الولايات المتحدة، في رأيه، ما زالت تشتكي من الماضي وتعيد تكرار نفس السياسات.
وأضاف: “علينا أن ندخل الصالة الرياضية نحن أيضا. لا يمكننا الفوز في هذا السباق ونحن نقف على الهامش”.
في حديثه لبرنامج The Ezra Klein Show، عبر الصحفي والمحلل السياسي المخضرم توماس فريدمان عن قلقه العميق من فقدان الولايات المتحدة قدرتها على المنافسة الصناعية أمام الصين، مشددا على غياب استراتيجية أمريكية واضحة لمواجهة التقدّم التكنولوجي الصيني.
النظام الاقتصادي الصيني
قال فريدمان إن النظام الاقتصادي الصيني يتيح لشركاته النمو دون الحاجة للكفاءة منذ البداية، بل يطالبها بالنجاح في النهاية، على عكس الولايات المتحدة التي تطلب الكفاءة منذ لحظة الانطلاق. وأشار إلى أن الدعم الحكومي الهائل للصناعات الصينية مثل السيارات الكهربائية والروبوتات والطاقة الشمسية خلق “حلقة ابتكار لا ترحم”، حيث تتنافس مئات الشركات، وتبقى فقط الأكثر كفاءة، مدعومة بسلاسل إمداد قوية.
أوضح أن “الاقتصاد الصناعي الجديد” يتطلب التواجد في مجالات مثل البطاريات، الذكاء الاصطناعي، السيارات الكهربائية، والطاقة النظيفة. “هذا هو النظام البيئي الذي سيدفع المستقبل، وإذا لم نكن جزءا منه، فسنقصى”، بحسب تعبيره.
في المقابل، انتقد فريدمان السياسات الأمريكية في عهد ترامب، ووصفها بأنها “عشوائية وقصيرة النظر”، مشيرا إلى أن فرض الرسوم الجمركية دون خطة صناعية بديلة داخلية يشبه “بناء جدار بلا بناء خلفه”. وأضاف: “لا يكفي أن تغلق الباب بوجه الصين، بل يجب أن تكون مستعدًا لتصميم وبناء ما هو أفضل”.
وسخر فريدمان من التركيز السياسي الأمريكي على قضايا مثل محاربة سياسات الجامعات التقدمية بدلا من دعم البحث العلمي والابتكار. وقال: “إذا كنا جادين بشأن المنافسة، فعلينا تعزيز قدراتنا، لا تدميرها”.
الخوف الأمريكي من “هيمنة الصين”
أما فيما يخص الخوف الأمريكي من “هيمنة الصين”، فقد قلل فريدمان من الطابع الإيديولوجي لهذا الخطر، قائلا: “الصين لا تنشر الماركسية، بل تسعى لهزيمتنا في لعبتنا الاقتصادية الخاصة”.
وحذر من أن تجاهل هذا الواقع قد يؤدي إلى “سحق” أمريكا في سباق المستقبل، مؤكدا أن “الصين وصلت، سواء أعجبنا ذلك أم لا”.
يقول فريدمان إن بناء “جدار جمركي” ضد الصين لا معنى له دون خطة محكمة لتطوير البنية الصناعية الأمريكية، منتقدا سياسات الإدارة الأمريكية التي تفرض الرسوم من جهة، وتقطع التمويل عن مراكز البحث العلمي من جهة أخرى، مضيفا: “إذا كنت تبني جدارا، فيجب أن تعمل خلفه على بناء مستقبل صناعي متكامل، لا أن تعود للفحم وتقتل صناعات السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة”.
ودعا فريدمان إلى اتباع نموذج مماثل لما فعلته الولايات المتحدة مع اليابان في التسعينيات، عندما جلبت الشركات اليابانية للعمل داخل الأراضي الأمريكية لتعلم تقنيات التصنيع. وقال: “لم لا نطلب من الشركات الصينية مثل شاومي بناء مصانع مشتركة هنا، مع سلاسل التوريد؟ كما فعلوا معنا؟”.
المنافسة في الذكاء الاصطناعي
أما بشأن الذكاء الاصطناعي، فيرى فريدمان أن المنافسة مع الصين دخلت مرحلة أكثر تعقيدا، محذرا من عالم “منفصل رقميا” حيث تتطور بنى تكنولوجية متباعدة في كلا البلدين. وأوضح أن الصين تمتلك اقتصادا رقميا متكاملا يسمح لها بدمج الذكاء الاصطناعي بسرعة في الحياة اليومية من السيارات إلى المدفوعات وحتى التصميم الصناعي.
وأشار إلى تجربة زيارة شركة Zeekr الصينية، حيث أخبره أحد المصممين أن ما كان يستغرق 3 أشهر من العمل على تصميم سيارة أصبح يستغرق 3 ساعات فقط، بفضل أدوات تصميم مدعومة بالذكاء الاصطناعي.
واختتم فريدمان بتحذير من نهج “أمريكا ضد العالم” الذي اعتمده ترامب، مشيرا إلى أن “أكبر قوة تملكها الولايات المتحدة هي تحالفاتها، بينما الصين لديها توابع”، داعيا إلى تشكيل جبهة موحدة من الحلفاء لإعادة التوازن التجاري بدلا من المواجهة المنفردة.
حذر الكاتب الأمريكي توماس فريدمان من أن السياسات الأمريكية المتخبطة تجاه الصين، خاصة في عهد الرئيس دونالد ترامب، تقود إلى تصعيد عدائي غير ضروري قد يدفع العالم إلى حالة من عدم الاستقرار الدائم، وفق ما جاء في بودكاست The Ezra Klein Show.
كارثة غير محسوبة
وصف فريدمان الإجراءات التجارية الأخيرة من إدارة ترامب بـ”الكارثة غير المحسوبة”، مشيرا إلى أن فرض رسوم جمركية دون استراتيجية طويلة الأجل أضعف من ثقة الحلفاء العالميين، بينما لم تحقق الولايات المتحدة أي تنازلات من الصين. وأضاف: “لقد أحرقنا رأسمالنا السياسي والمالي، ونطلق على ذلك انتصارا، بينما خسرنا كثيرا من قدرتنا التفاوضية”.
وأشار إلى أن التركيز المفرط على معاداة الصين، دون رؤية واضحة لماهية الهدف من هذه السياسات، يعيد إلى الأذهان فكرة “فخ ثيوسيديدس” — وهو تصادم القوى الصاعدة مع القوى المهيمنة. ويضيف: “أصبح هدف واشنطن هو منع الصين من التقدم، بدلا من تعزيز قوتنا الذاتية أو بناء شراكات بناءة”.
وشدد فريدمان على أن الانفصال الكامل بين الاقتصادين الأمريكي والصيني، خاصة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، قد يكون مدمرا. وأوضح أن الصين تتمتع ببنية رقمية متكاملة تسمح بدمج الذكاء الاصطناعي بسرعة في مختلف الصناعات من السيارات إلى أنظمة الدفع.
وفي إشارة إلى سياسات ترامب الداخلية، عبر فريدمان عن قلقه من “ثورة ثقافية” يمينية شبيهة بما حدث في الصين تحت حكم ماو، مشيرا إلى أن طرد مسؤولين في الأمن السيبراني بناء على نصيحة من مروجي نظريات المؤامرة يعكس انهيارا في الجدية السياسية.
وقال فريدمان: “عندما أذهب إلى الصين، أكتب عن أمريكا. أحاول أن أظهر ما يعنيه أن تكون جادا في بناء اقتصاد القرن الحادي والعشرين من أجل أولادي وأحفادي”.
واختتم بالدعوة إلى العودة إلى الحوار والانفتاح بدلا من التصعيد المستمر، محذرا من أن هذه السياسة العدائية قد تنتج العدو الذي تزعم واشنطن أنها تحاول احتواءه.
aXA6IDE4NS4yNDQuMzYuMTM3IA== جزيرة ام اند امز